فصل: تفسير الآيات (32- 39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (19- 26):

{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)}
ولما ذكر تكذيبهم وأعقبه تعذيبهم، علم السامع أنه شديد العظمة فاستمطر أن يعرفه فاستأنف قوله، مؤكداً تنبيهاً على أن قريشاً أفعالهم في التكذيب كأفعالهم كأنهم يكذبون بعذابهم: {إنا أرسلنا} بعظمتنا، وعبر بحرف الاستعلاء إعلاماً بالنقمة فقال: {عليهم ريحاً} ولما كانت الريح ربما كانت عياناً، وصفها بما دل على حالها فقال: {صرصراً} أي شديد البرد والصوت. ولما كان مقصود السورة تقريب قيام الساعة ووصف سيرهم إلى الداعي بالإسراع، ناسب أن يعبر عن عذابهم بأقل ما يمكن، فعبر باليوم الذي يراد به الجنس الشامل للقليل والكثير وقد يعبر به عن مقدار من الزمان يتم فيه أمر ظاهر سواء لحظة أو أياماً أو شهوراً أو كثيراً من ذلك أو أقل كيوم البعث ويوم بدر ويوم الموت بقوله تعالى:- {إلى ربك يومئذ المساق} [القيامة: 35]: {في يوم} وأكد شؤمها بذم زمانها فقال: {نحس} أي شديد القباحة، قيل: كان يوم الأربعاء آخر الشهر وهو شوال لثمان بقيت إلى غروب الأربعاء، وحقق لأن المراد باليوم الجنس لا الواحد بالوصف فقال: {مستمر} أي قوي في نحوسته نافذ ماض فيما أمر به من ذلك شديد أسبابه، موجود مرارته وجوداً مطلوباً من مرسله في كل وقت، مستحكم المرارة قويها دائمها إلى وقت إنفاذ المراد.
ولما علم وصفها في ذاتها، أتبعه وصفها بما يفعل فيه فقال: {تنزع} أي تأخذ من الأرض بعضهم من وجهها وبعضهم من حفر حفروها ليتمنعوا بها من العذاب، وأظهر موضع الإضمار ليكون نصاً في الذكور، والإناث فعبر بما هو من النوس تفضيلاً لهم فقال: {الناس} الذين هم صور لا ثبات لهم بأرواح التقوى، فتطيرهم بين السماء والأرض كأنهم الهباء المنثور، فتقطع رؤوسهم من جثثهم وتغير ألوانهم تعتيماً لهم إلى السواد، ولذا قال: {كأنهم} أي حين ينزعون فيلقون لا أرواح فيهم كأنهم {أعجاز} أي أصول {نخل} قطعت رؤوسها. ولما كان الحكم هنا على ظاهر حالهم، وكان الظاهر دون الباطن، حمل على اللفظ قوله: {منقعر} أي منقصف أي منصرع من أسفل قعره وأصل مغرسه، والتشبيه يشير إلى أنهم طوال قد قطعت رؤوسهم، وفي الحافة وقع التشبيه في الباطن الذي فيه الأعضاء الرئيسة، والمعاني اللطيفة، فأنث الوصف حملاً على معنى النخل لا للطفها- والله أعلم.
ولما طابق ما أخبر به من عذابهم ما هو له به أولاً، أكد ذلك لما تقدم من سره فقال مسبباً عنه مشيراً إلى أنه لشدة هوله مما يجب السؤال عنه: {فكيف كان} أيها السائل، ولفت القول إلى الإقرار تنبيهاً للعبيد على المحافظة على مقام التوحيد: {عذابي} لمن كذب رسلي {ونذر} أي وإنذاري أو رسلي في إنذارهم هل صدق.
ولما أتم سبحانه تحذيره من مثل حالهم بأمر ناظر أتم نظر إلى تدبير ما في سورة الذاريات، أتبع ذلك التنبيه على أنه ينبغي للسامع أن يتوقع الحث على ذلك، فقال مؤكداً لما لأكثر السامعين من التكذيب بالقال أو بالحال معلماً أنه سهل طريق الفرار من مثل هذه الفتن الكبار إليه، وسوى من الاعتماد عليه، عائداً إلى مظهر العظمة إيذاناً بأن تيسير القرآن لما ذكر من إعجازه لا يكون إلا لعظمة تفوت قوى البشر، وتعجز عنها القدرة {ولقد يسرنا} على ما لنا من العظمة في الذات والصفات {القرآن} الجامع الفارق كله وما أشارت إليه هذه القصة من مفصله {للذكر} للحفظ والشرف والفهم والتدبير والوعظ والاتعاظ ما صرفنا فيه من أنواع الوعظ مع التنبيه للحفظ بالإيجاز وعذوبة اللفظ وقرب الفهم وجلالة المعاني وجزالة السبك وتنويع الفنون وتكثير الشعب وإحكام الربط {فهل من مدَّكر} أي تسبب عن هذا الأمر العظيم الذي فعلناه أنه موضع السؤال عن أحوال السامعين: هل فيهم من يقبل على حفظه ثم تدبره وفهمه ويتعظ بما حل بالأمم السالفة، ويتذكر جميع ما صرف من الأقوال وينزلها على نفسه وما لها من الأحوال، ويجعل ذلك لوجهنا فيلقيه بتشريفه به أمر دنياه وأخراه.
ولما كان هذا موضع الإقبال على تدبر مواعظ القرآن، وكان ثمود أعظم وعظ كان بعد عاد لما في صيحتهم الخارجة عن العهود من تصوير الساعة بنفختيها المميتة ثم المحيية، وقال مؤنثاً فعلهم إشارة إلى سفول هممهم وسفول فعلهم معلماً أن من كذب هلك- على طريق الجواب لمن لعله يقول استبعاداً لتكذيب بعد ما جرى في القصتين الماضيتين من التعذيب: {كذبت ثمود} أي قوم صالح {بالنذر} الإنذارات والمنذرين كلهم لأنهم شرع واحد، ثم علل ذلك وعقبه بقوله معلماً بالضمير أن المباشر بهذا الكفر رجالهم لئلا يظن أنهم نساء فقط: {فقالوا} منكرين لما جاءهم من الله غاية الإنكار: {أبشراً} إنكاراً لرسالة هذا النوع ليكون إنكار النبوة إنكاراً لنبوة نبيهم على أبلغ الوجوه، وأعظم الإنكار بقولهم مقدمين عدم الانفراد عنهم لخصوصيته: {منا} أي فلا فضل له علينا فما وجه اختصاصه بذلك من بيننا، وزادوا ذلك تأكيداً فقالوا: {واحداً} أي ليس معه من يؤيده، ثم فسر الناصب لقوله: {بشراً} بقوله: {نتبعه} أي نجاهد نفسنا في خلع مألوفنا وخلاف آبائنا والإقرار على أنفسنا بسخافة العقل والعراقة في الجهل ونحن أشد الناس كثرة وقوة وفهماً ودراية، ثم استنتجوا عن هذا الإنكار الشديد قولهم مؤكدين الاستشعار بأن كلامهم أهل لأن يكذب: {إنا إذاً} أي إن اتبعناه {لفي ضلال} أي ذهاب عن الصواب محيط بنا {وسعر} أي تكون عاقبتنا في ذلك الضلال الكون في أوائل أمر لا ندري عاقبته، فإنه لم يجرب ولم يختبر ولم يمعن أحد قبلنا سلفاً لنا فيجرنا ذلك إلى جنون وجوع ونار كما يكون من يأتوه في القفار في أنواع من الحر بتوقد حر الجبال وحر الضلال وحر الهموم والأوجال- وذلك من النار التي توعدنا بها، وهو معنى تفسير ابن عباس رضي الله عنهما له بالعذاب، وجعل سفيان بن عيينه له جمع سعير، والمعنى إنا نكون إذا اتبعناك كما تقول جامعين بين الضلال والعذاب بسائر أنواعه.
ولما كان فيما قالوه أعظم تكذيب مدلول على صحته في زعمهم بما أمؤوا إليه من كونه آدمياً مثلهم، وهو مع ذلك واحد من أحادهم فليس هو بأمثلهم وهو منفرد فلم يتأيد فكره بفكر غيره حتى يكون موضع الوثوق به، دلوا عليه بأمر آخر ساقوه أيضاً مساق الإنكار، وأموؤا بالإلقاء إلى أنه في إسراعه كأنه سقط من علو فقالوا: {أألقي} أي أنزل بغتة في سرعة لأنه لم يكن عندهم في مضمار هذا الشأن ولم يأتمروا فيه قبل إتيانه به شيء منه بل أتاهم به بغتة في غاية الإسراع. ولما كان الإلقاء يكون للأجسام غالباً، فكان لدفع هذا الوهم تقديم النائب عن الفاعل أولى بخلاف ما تقدم في ص فقالوا: {الذكر} أي الوحي الذي يكون به الشرف الأعظم، وعبروا بعلى إشارة إلى أن مثل هذا الذي تقوله لا يقال إلا عن قضاء غالب وأمر قاهر فقال: {عليه} ودلوا على وجه التعجب والإنكار بالاختصاص بقولهم: {من بيننا} أي وبيننا من هو أولى بذلك سناً وشرفاً ونبلاً.
ولما كان هذا الاستفهام لكونه إنكارياً بمعنى النفي، أضربوا عنه بقولهم على وجه النتيجة عطفاً على ما أفهمه الاستفهام من نحو: ليس الأمر كما زعم: {بل هو} لما أبديناه من الشبه {كذاب} أي بليغ في الكذب {أشر} أي مرح غلبت عليه البطالة حتى أعجبته نفسه بمرح وتجبر وبطر، ونشط في ذلك حتى صار كالمنشار الذي هو متفرغ للقطع مهيأ له خشن الأمر سيئ الخلق والأثر فهو يريد الترفع.
ولما كان هذا غاية الذم لمن يستحق منهم غاية المدح، أجاب تعالى عنه موعظة لعباده لئلا يتقولوا ما يعلمون بطلانه أو يقولوا ما لا يعلمون صحته بقوله: {سيعلمون} بوعد لا خلف فيه. ولما كان المراد التقريب لأنه أقعد في التهديد، قال: {غداً} أي في الزمن الآتي القريب لأن كل ما حقق إتيانه قريب عند نزول العذاب في الدنيا ويوم القيامة، وقراءة ابن عامر وحمزة ورويس عن يعقوب بالخطاب التفات يعلم بغاية الغضب {من الكذاب الأشر} أي الكذب والأشر وهو احتقار الناس والاستكبار على ما أبدوه من الحق مختص به ومقصود عليه لا يتعداه إلى مرميه وذلك بأنهم جعلوا الكذب ديدنه ولم يتعدهم حتى يدعى شيء منه لصالح عليه الصلاة والسلام، فكان الكلام معيناً لهم في الكذب قاصراً عليهم بسياقه على هذا الوجه المبهم المنصف الذي فيه من روعة القلب وهز النفس ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى، وكلما كان الإنسان أسلم طبعاً وأكثر علماً كان له أعظم ذوقاً.

.تفسير الآيات (27- 31):

{إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)}
ولما علم من هذا أنه سبحانه فصل الأمر بينهم، تشوف السامع إلى علم ذلك فقال تعالى مستأنفاً دالاً بأنهم طالبوه بآية دالة على صدقه: {إنا} أي بما لنا من العظمة {مرسلو الناقة} أي موجدوها ومخرجوها كما اقترحوا من حجر أهلناه لذلك وخصصناه من بين الحجارة دلالة على إرسالنا صالحاً عليه السلام: مخصصين له من بين قومه، وذلك أنهم قالوا لصالح عليه السلام: نريد أن نعرف المحق منا بأن ندعو آلهتنا وتدعو إلهك فمن أجابه إلهه علم أنه المحق، فدعوا أوثانهم فلم تجبهم، فقالوا: ادع أنت، فقال: فما تريدون؟ قالوا: تخرج لنا من هذه الصخرة ناقة تبعر عشراء، فأجابهم إلى ذلك بشرط الإيمان، فوعدوه بذلك وأكدوا فكذبوا بعد ما كذبوا في أن آلهتهم تجيبهم، وصدق هو صلى الله عليه وسلم في كل ما قال فأخبره ربه سبحانه أنه يجيبهم إلى إخراجها {فتنة لهم} أي امتحاناً يخالطهم به فيميلهم عن حالتهم التي وعدوا بها ويجيبهم عنها، وسبب سبحانه عن ذلك أمره بانتظارهم فيما يصنعون بعد إخراجهم لما توصلهم إليه عواقب الفتنة فقال: {فارتقبهم} أي كلف نفسك انتظارهم فيما يكون لهم جزاء على أعمالهم انتظار من يحرسهم وهو عالم عليم فإنهم واصلون بأعمالهم إلى الداهية التي تسمى بأم العرقوب ليكونوا كمن جعل في رقبته، ودل بصيغة الافتعال على أنه يكون له منه أذى بالغ قبل انفصال النزاع فقال: {واصطبر} أي عالج نفسك واجتهد في الصبر عليهم {ونبئهم} أي أخبرهم إخباراً عظيماً بأمر عظيم، وهو أن الماء الذي يشربونه وهو ماء بئرهم {أن الماء قسمة بينهم} أي بين ثمود وبين الناقة، غلب عليها ضمير من يعقل، يعني إذا بعثناها كان لهم يوم لا تشاركهم فيه في الماء، ولها يوم لا تدع في البئر قطرة يأخذها أحد منهم، وتوسع الكل بدل الماء لبناً. ولما أخبر بتوزيع الماء، أعلم أنه على وجه غريب بقوله استئنافاً: {كل شرب} أي من ذلك وحظ منه ومورد البرو وقت يشرب فيه {محتضر} أي أهل لما فيه من الأمر العجيب أن يحضره الحاضرون حضوراً عظيماً، وتتكلف أنفسهم لذلك لأنه صار في كثرته وحسنه كماء الحاضرة للبادية وتأهل لأن تعارضه حاضروه من حسنه ويرجعوا إليه وأن يجتمع عليه الكثير ويعودوا أنفسهم عليه.
ولما كان التقدير: فكان الأمر كما ذكرنا، واستمر الأمد الذي ضربنا فافتتنوا كما أخبرنا {فنادوا} بسبب الفتنة {صاحبهم} قذار بن سالف الذي انتدبوه بطراً وأشراً لقتل الناقة وكذبنا فيها بوعدهم الإيمان وإكرامها بالإحسان وهو أشقى الأولين {فتعاطى} أي أوقع بسبب ندائهم التعاطي الذي لا تعاطي مثله، فتناول ما لا يحق له أن يتناوله بسبب الناقة وهو سيفه بيده قائماً في الأمر الناشئ عن هذا الأخذ على كل حال، ورفع رأسه بغاية الهمة ومد يديه مداً عظيماً ورفعها وقام على أصابع رجليه حين عاطوه ذلك أي سألوه فيه فطاوعهم وتناول الناقة بذلك السيف غير مكترث ولا مبال {فعقر} أي فتسبب عن هذا الجد العظيم أن صدق فيما أثبت لهم الكذب في الوعد بالإحسان إليها والأشر، وهو إيقاع العقر الذي ما كان في ذلك الزمان عقر مثله وهو عقر الناقة التي هي آية الله وإهلاكها.
ولما وقع كذبهم على هذا الوجه العظيم المبني على غاية الأشر، حقق الله تعالى صدقه في توعدهم على تقدير وقوع ذلك، فأوقع عذابهم سبحانه على وجه هو من عظمه أهل لأن يتساءل عنه، فنبه سبحانه على عظمة بإيراده في أسلوب الاستفهام مسبباً عن فعل الأشقى فقال: {فكيف كان} وحافظ على مقام التوحيد كما مضى فقال: {عذابي} أي كان على حال ووجه هو أهل لأن يجتهد في الإقبال على تعرفه والسؤال عنه {ونذر} أي إنذاري. ولما علم تفرغ ذهن السائل الواعي، استأنف قوله مؤكداً إشارة إلى أن عذابهم مما يستلذ وينجح به، وإرغاماً لمن يستبعد النصيحة الواحد بفعل مثل ذلك، وإعلاماً بأن القدرة على عذاب من كذب من غيرهم كهي على عذابهم فلا معنى للتكذيب: {إنا} بما لنا من العظمة {أرسلنا} إرسالاً عظيماً، ودل على كونه عذاباً بقوله: {عليهم صيحة} وحقر شأنهم بالنسبة إلى عظمة عذابهم بقوله تعالى: {واحدة} صاحها عليهم جبريل عليه السلام فلم يكن بصيحته هذه التي هي واحدة طاقة، وتلاشى عندها صياحهم حين نادوا صاحبهم لعقر الناقة. ولما تسبب عنها هلاكهم قال: {فكانوا} كوناً عظيماً {كهشيم المحتظر} أي محطمين كالشجر اليابس الذي جعله الراعي ومن في معناه ممن يجعل شيئاً يأوي إليه ويحتفظ به ويحفظ به ماشيته في وقت ما لا يقاله (؟) وهو حظيره أي شيء مستدير مانع في ذلك الوقت لمن يدخل إليه فهو يتهشم ويتحطم كثير منه وهو يعمله فتدوسه الغنم ثم تتحطم أولاً فأولاً، وكل ما سقط منه شيء فداسته الغنم كان هشيماً، وكأنه الحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته.

.تفسير الآيات (32- 39):

{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39)}
ولما كان التقدير: فلقد أبلغنا في الموعظة لكل من يسمع هذه القصة، عطف عليه قوله مؤكداً لأجل من يعرض عن هذا القرآن ويعلل إعراضه عنه بصعوبته: {ولقد يسرنا} أي على ما لنا من القدرة والعظمة {القرآن} أي الكتاب الجامع لكل خير، الفارق بين كل ملبس {للذكر} أي الحفظ والتذكير والتذكر وحصول النباهة به والشرف إلى الدارين. ولما كان هذا غاية في وجوب الإقبال عليه لجميع المتولين، قال: {فهل من مدكر} أي ناظر فيه بسبب قولنا هذا بعين الإنصاف والتجرد عن الهوى ليرى كل ما أخبرنا به فنعينه عليه. ولما كان النذير: كأنه قال المنذرين لم يتعظوا به فزاد في وعظهم، وكانت قصة لوط عليه السلام مع قومه أعظم ما كان بعد ثمود مما تعرفه العرب بالأخبار ورؤية الآثار، ومع ما في قصتهم من تصوير الساعة من تبديل الأرض غير الأرض، استأنف قوله: {كذبت قوم لوط} أي وهم في قوة عظيمة على ما يحاولونه وإن كانوا في تكذيبهم هذا في ضعف وقوع النساء عن التجرد مما دل عليه تأنيث الفعل بالتاء وكذا ما قبلها من القصص {بالنذر} أي الإنذار والإنذارات والمنذرين، ودل على تناهي القباحة في مرتكبهم بتقديم الإخبار عن عذابهم فقال: {إنا} أي بما لنا من العظمة {أرسلنا} ودل على أنه إرسال إهانة بقوله: {عليهم} ودل على هوانهم وبلوغ أمره كل ما يراد به بقوله: {حاصباً} أي ريحاً ترمي بحجارة هي دون ملء فكانت مهلكة لهم محرقة خاسفة مفرقة {إلا آل لوط} وهم من آمن به وكان بحيث إذا رأيته فكأنك رأيت لوطاً عليه السلام لما يلوح عليه من أفعاله والمشي على منواله في أقواله وأحواله وأفعاله.
ولما كان استثناؤهم مفهماً إنجاءهم مع التجويز لإرسال شيء عليهم غير مقيد بما ذكر، قال مستأنفاً جواباً لمن كأنه قال: ما حالهم: {تجيناهم} أي تنجية عظيمة بالتدريج، وذكر أول الشروع لإنجاءهم فقال: {بسحر} أي بآخر ليلة من الليالي وهي التي عذب فيها قومه، فكأنه تنكيره لأنا لا نعرف تلك الليلة بعينها، ولو قصدت سحر الليلة التي صبحت منها كان معرفة لا ينصرف، والسحر: السدس الأخير من الليل: الوقت الذي يكون فيه الإنسان لاسيما النساء والأطفال في غاية الغفلة بالاستغراق في النوم، ويفتح الله فيها أبواب السماء باذن الدعاء ليحصل منه الإجابة لأن الملوك إذا فتحوا أبوابهم كان ذلك إذناً للناس في الدخول لقضاء الحوائج، فالنزول وفتح الأبواب كناية عن ذلك- والله سبحانه وتعالى متعال عن حاجة إلى نزول أو فتح باب أو غير ذلك.
ولما كان المراد من الموعظين الطاعة التي هي سبب النجاة، فلذا قال ذاكراً للإنعام معبراً عنه بغاية المقصود منه معرفاً أن انتقامه عدل ومعافاته فضل، لأن أحداً لا يقدر أن يكافئ نعمه ولا نعمة منها، معللاً للنجاة: {نعمة من عندنا} أي عظيمة غريبة جداً لشكرهم، ولما كان كأنه قيل: هل هذا مختص بهم.
.. الإنجاء من بين الظالمين وهو مختص بهم، أجاب بقوله: {كذلك} أي مثل هذا الإنجاء العظيم الذي جعلنا جزاء لهم {نجزي} بقدرتنا وعظمتنا {من شكر} أي أوقع الشكر بجميع أنواعه فآمن وأطاع ليس... بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كائناً من كان من سوقة أو سلطان جائر شجاع أو جبان، فاننا عليه بالإنجاء بعد هلاك عدوه، قال القشيري: والشكر على نعم الدفع أتم من الشكر على نعم النفع، ولا يعرف ذلك إلا كل موفق كيس فالآية من الاحتباك: ذكر الإنعام أولاً- لأنه السبب الحقيقي- دليلاً على حذفه ثانياً، والشكر ثانياً- لأنه السبب الظاهر- دليلاً على حذفه أولاً.
ولما كان التقدير دفعاً لعناد... استشراف السامع إلى ما كان من حاله صلى الله عليه وسلم معهم قبل العذاب: لقد بالغ في شكرنا بوعظهم ونصحهم ودعائهم إلنيا صرفاً لما أنعمنا به عليه من الرسالة في أتم مواضعه، عطف عليه إيماء إليه قوله، مؤكداً لأن تمادي المحذور من العذاب على الإقامة في موجبه يكاد أن لا يصدق: {ولقد أنذرهم} أي رسولنا لوط عليه السلام {بطشتنا} أي أخذتنا لهم المقرونة بشدة ما لنا من العظمة، ووحد إشارة إلى أنه لا يستهان بشيء من عذابه سبحانه بل الأخذة الواحدة كافية لما لنا من العظمة فهي غير محتاجة إلى التثنية، ودل على أن إنذاره كان جديراً بالقبول لكونه واضح الحقيقة بما سبب عن ذلك من قوله: {فتماروا} أي تكلفوا الشك الواهي {بالنذر} أي الإنذار مصدراً والإنذارات أو المنذرين حتى أداهم إلى التكذيب، فكان سبباً للأخذ.
ولما كان ترك الاحتياط في إعمال الحيلة في وجه الخلاص من إنذار النذير عظيم العرافة في السفه دل على أنهم تجاوزوا ذلك إلى انتهاك حرمة النذير، فقال مقسماً لأن مثل ذلك لا يكاد يقع فلا يصدق من حكاه: {ولقد راودوه} أي زادوا في التكذيب الموجب للتعذيب أن عالجوا معالجة طويلة تحتاج إلى فتل ودوران {عن ضيفه} ليسلمهم إليهم وهم ملائكة في هيئة شباب مرد، وأفردوا وإن كان المراد الجنس استعظاماً لذلك لو كان الضيف واحداً {فطمسنا} أي فتسبب عن مراودتهم أن طمسنا بعظمتنا {أعينهم} فسويناها مع سائر الوجوه فصارت بحيث لا يرى لها شق، قال البغوي: هذا قول أكثر المفسرين، وذلك بصفقة صفقها لهم جبريل عليه الصلاة والسلام، وقال القشيري: مسح بجناحيه على وجوههم فعموا ولم يهتدوا للخروج، وقال ابن جرير: والعرب تقول: طمست الريح الأعلام- إذا دفنتها بما يسفي عليها من التراب.
فانطلقوا هراباً مسرعين إلى الباب لا يهتدون إليه ولا يقعون عليه بل يصادمون الجدران خوفاً مما هو أعظم من ذلك وهم يقولون: عند لوط أسحر الناس، وما أدتهم عقولهم أن يؤمنوا فينجوا أنفسهم مما حل بهم، قال القشيري: وكذلك أجرى الله سبحانه سنته في أوليائه بأن يطمس على قلوب أعدائهم حتى يلتبس عليهم كيف يؤذون أولياءه ويخلصهم من كيدهم. ولما كان... أول عذابهم قال: {فذوقوا} أي فتسبب عن ذلك أن قال قائل عن الله بلسان القال أو الحال: أيها المكذبون ذوقوا بسبب تكذيبكم لرسلي في إنذارهم {عذابي ونذر} أي وعاقبة إنذاري على ألسنة رسلي.
ولما كان بقاؤهم بعد هذا على حال كفرهم عجباً إذ العادة قاضية بأن من أخذ ارعوى ولو كان أفجر الخلق، وسأل العفو عنه صدقاً أو كذباً خداعاً ومكراً ليخلص مما هو فيه... بثباتهم على تكذيبهم حتى عذبوا على قرب العهد فقال مقسماً: {ولقد صبحهم} أي أتاهم في وقت الصباح، وحقق المعنى بقوله: {بكرة} أي في أول النهار العذاب، ولو كان أول نهارك الذي أنت به كان معرفة فامتنع... {عذاب} أي قلع بلادهم ورفعها ثم قلبها، وحصبها بحجارة من نار وخسفها وغمرها بالماء المنتن الذي لا يعيش به حيوان {مستقر} أي ثابت عليهم غير مزايل بخيال ولا سحر كما قالوا عند الطمس فإنه أهلكهم فاتصل بعذاب البرزخ المتصل بعذاب القيامة المتصل بالعذاب الأكبر في الطبقة التي تناسب أعمالهم من عذاب النار فقال لهم لسان الحال إن لم ينطلق لسان القال: {فذوقوا} بسبب أعمالكم {عذابي ونذر}.